هذه سلسلة من الكتابات عن مدن ومناطق، عن الأهل، عن البحر وعن الحواف والأطراف، عن أكتاف الظهيرة.. لا أدري متى ستتوقف ولن تأخذ شكلًا محددًا، الأرقام فيها لا تعني شيئًا سوى أنها مستمرة حتى يتلاشى الرقم وتبقى الأماكن في أماكنها.
هذه الكتابة لا تصلح للسياحة ولا تصلح أيضًا للتاريخ، هي أقرب إلى الجغرافيا منها إلى أي شيء آخر، أقرب إلى الخارطة منها إلى خانات التاريخ وخياناته.
لم أزر هذه المنطقة في حياتي لكنني ارتبطت بها بشكل ما، حتى أصبحت حُلمًا لا يأتي إلا في الصباح.
كلما سمعت لهجتها من قلب صديق، ذهبت إلى باعة الورد.. لا أعرف كيف يمكن أن أتصوَّر بيوتها، هذا التشويش يحدث بفعل العدسات المكبّرة، مرة للفقر ومرة للناس ومرّة للشوارع وأخرى للبحر وثالثة ورابعة للجُزر والأسماك والرقص.
لا بدّ أن الذاهب إليها يشمُّ رائحتها منذ التربة الأولى، ولا بدّ أن لقراها رائحة الخبز، وأن لأصابع نسائها فيّ أطفالًا يكبرون في الظلال، هذا اليقين يكبر كلما رأيت مشهدًا لأحد بيوتها القديمة.
القصب فيها شقيق الحياة، رؤوس البيوت وغناء الرعاة.. الورد صحّة المشاة، الشعر قهوة الجالسين، أما البحر فغيرة تطل من أعلى النهار إلى أعشاش أحلام الصيادين.
هذه الـ…… ليست مدينة ولا منطقة، هذه القارة من الحياة، الفارّة بتاريخها من التلوث، المطويّة في مكان آمن، يفرشها أهلها في الصباح لتبدأ لحظتها الأولى ليّنة كحوصلة عصفور، ويطويها الساهرون قبل نومهم لترتاح عجائزها من ضجيج حوافر البهائم وأصوات الريح.
أجزم بأن كل من أحبها يستطيع أن يجمع الحكايات من تحت الأشجار، وأن يعرف أي يد لمست الأرض قبل قليل، وأي قدمٍ صعدت إلى السماء بخفّة لا تضاهى.
هذه الجازان التي هربت من جيب أفريقيا حين جاء البحر بالبحارة والصيادين من أعالي الوقت، واستأذنت الجنوب لتذهب للكتابة..
لم تلتفت طويلا لتسمع عواء الريح بجانبها لأنها نذرت الطمأنينة لأهلها، ولم تنم طويلًا من فرط محبتها للحياة، ولم تستيقظ إلا لتعلّم الأطفال كيف يجمعون أصوات الطيور.
خطوة خطوة علّمت التاريخ بالقلم الرصاص كيف يمحو الأخطاء وأطلقت سيقانها ببهاء كامل للعيش.
جازان؟ هي حمد الله .
تلك الولادة التي أنجبت القصائد والحكايات والغناء..
………………………..
بقلم / عادل الحوشان