
جيزان القصيدة
جيزان جئتُ
بجوارحي حنين
رمال نجد إلى البحر
جيزان جئتُ
موج جامح يؤجج
جمر اللقاء
جيزان جئتُ
أستجير بشمس بلقيس
من تلوث المدن
جيزان جئتُ
أشتاق نخل الدوم
عقود الفل
فلقة الفجر في صباح الصيد
جيزان جئتُ
هدهد يحفه الهوى من كل جانب
غيد تغار من غموض جمالك
أبجدية تستعيد إيقاعها
من فحيح صمتك
وهديل كلامك
جيزان جئتُ
أغمس خبزي
في مرك وشهدك
جئت
أغسل حبري
بصبرك
بسمرة نحرك
بتباريح حبك
جيزان جئتُ
فخلِّي بيني وبيني
وأدهشيني….
هل شعر يتشبَّه بالحياة أم حياة تنافس الشعر؟
أخذت جنيات أو شياطين هذه القصيدة تُغِير على هدوئي طول طريق الرحلة من الرياض إلى جيزان وكأنها تحذرني من الوقوع في هوى جيزان، إلا أن الحذر في حب تراب الوطن لا يحمي من قدر التعلق بذرات ذلك التراب واستلهام رطوبته وجفافه. استهلّيت مشاركتي في أمسية جيزان الشعرية للنادي الأدبي مساء الأربعاء الماضي بتلك القصيدة، وكنت عبثاً أحاول أن أجاري بالشعر مشهد الحياة الصاخب الذي استقبلتني به جيزان من اللحظة الأولى لاستضافتي وقبل أن تحطّ قدماي على أرض المطار ويدخل رئتي هواؤها المغموس بلهاث البحر إلى اللحظة التي لن أنسى فيها تفاصيل هذه الزيارة وزهوها ولقائي بناسها وأساطيرها وثقافتها ما حييت.
استقبال شعري
كان من صحبة الوفاء في استقبالي سمية وسارة إبراهيم الصعابي صبية من سلالة الشعر وطفلة من شهده. وبمجرد أن وصلنا إلى الفندق واستقرّينا بغرفة 232 أمام النافذة في إطلالة سخية على البحر شرعت سارة بصوتها الطفولي العذب في تحلية أجاج الساحل بقصيدة (المعلمة) للشاعر إبراهيم الصعابي، ومن بعدها لم تتوقف نوافير الشعر في جيزان عن إطلاق رغواتها القزحية في دمي.
نوافير الشعر في جيزان
كان من تلك النوافير عدد من نساء جيزان أشواق وبسمة وسميرة ووعد وشمس ولمياء ونورة وفاطمة وآمنة وأم أحمد وأم أسامة، أكثر من خمسين امرأة وصبية ممن حضرن الأمسية وجلست مع عدد منهن على هامش اللقاء ممن لو لم أتعرف على أسمائهن والألقاب جميعها فإنه سيبقى من كنوز الذاكرة ترحابهن الحار وأسئلتهم ونقاشاتهم الأكثر سخونة.
جيزان منجم الأسطورة
على مائدة الغداء أدهشتنا السيدة خديجة إسماعيل ناجع بحديثها الثري عن تاريخ جيزان ممزوجاً بأسطورة الحكاية وأسطورة الحياة معاً. تحدثت عن تمازج الأعراق وعن تداخل التواريخ الشخصية والسياسية والأدبية في تشكيل نسيج مجتمع جيزان وفي جدل مسيرة تاريخه الاجتماعي، ليس ابتداءً بقصة ما يُقال أنه سبب تسمية (جازان) مما ارتبط بسطوة طقسها وصعوبة تضاريسها، وليس انتهاءً بتوسيمها جغرافياً بالمخلاف السليماني نسبةً إلى سيدنا سليمان.
الأمسية الشعرية ممرّ يفتح على بحر
أما في الأمسية الشعرية بمقر النادي الأدبي فقد صبّت تلك النوافير علينا فلاً وبعيثران. ومع أنه لم يكن لنا نحن شاعرات الأمسية أن ندخل فسحة المبنى الواسع الجميل للنادي فقد اتسع ذلك الممر النحيل زجاجي المطلات على (قاعة الأمسية) في قسم الرجال الذي نادراً ما دخل إليه نساء لشحنات بروق لا حدود لها من التبادل المعرفي وشجن الأشواق بيننا وبين الحاضرات من النساء ومن الرجال.هل أقول كم فجأني وأفعمني أنه قبل الأمسية وبعدها جاءني عدد من الفتيات فوجدت أنهن استخرجن قصائدي من الإنترنت وقرأنها قبل الأمسية بأيام، وبعضهن جئن يحملن ديوان شجن الجماد وقد حصلن عليه من أقرباء لهن من معرض الكتاب بالرياض وكنّ يُردْن توقيع الشاعرة.
المساواة والتنوع في الثقافة والإبداع
أعرف أن جيزان أرض خصبة بالمبدعين على ساحة الثقافة المحلية والعربية الحديثة: الروائي عبدو خال، القاصة نجوى هاشم، الشاعر أحمد عايل فقيه، الشاعر إبراهيم صعابي، ولو أردت أن أمضي أن أسمي كل مبدعيها لما كفاني المقال، ومع ذلك….. هل أبوح كم أربكني وأشجاني أن يخرج من مداخلات الحضور مَن يسجل شهادة اجتماعية تردّ الاعتبار لمرحلة إبداعية كاملة مثل تلك الشهادة التي أدلى بها الشاعر إبراهيم الزولي في حق جيل السبعينيات والثمانينيات وسواه من الحضور. وأهمية أمثال هذه الشهادة مما قدم في أمسية جيزان بالنسبة لي ليس أنها سجلت متابعة شغوفة لجروح الشعر وأثمان التجديد التي تقرحت منها كفي وروحي بالحديث حديث العارف عن تجربتي، ولكن أهميتها هو أنها تأتي شهادةً من جيل لاحق في حق جيل سابق بأكمله في تواصل مسيرة الأجيال وإصرارها على تقاسم رغيف الشعر والإبداع وأوار ناره. كما أن أهميتها في أنها تأتي من جيزان فتكشف عن تلك اللحمة الوطنية في جسد الحركة الثقافية بما يجسد (المساواة على مستوى إبداعي ومعرفي) على الأقل بين ما يُسمَّى سيسيولوجيا (المركز والأطراف). بل إن ذلك في رأيي يرمز لواقع وإمكان تقدُّم الأطراف على المركز (على رغم امتيازات المركز) في قدرته على استيعاب التجديد وعلى تقبُّل التعدد والاختلاف بما يخلق تحدي لمسلمات النقد الأدبي والبحث الاجتماعي والأنثربولوجي لتحليل مثل هذا السؤال الإشكالي والمحرج في آنٍ.
قصيدة بصر الحواس
أخفي الحقيقة لو قلت: إنني خرجت من تجربة القراءة الشعرية في أمسية جيزان كما دخلت. لقد كنت قبل وصول جيزان أضع يدي على قلبي وأنا لا أعرف بالضبط كيف سيكون استقبال حضور الأمسية وتقبُّل ذائقتهم لتعدد الأشكال الشعرية والتجربة الإبداعية لشعراء الأمسية. إلا أنه مع إصرار الحضور على المزيد من الجولات الشعرية لكل شاعر من الشعراء بالتبادل على ما بين قصائد الجولات وشعرائها من تنوع شعرت أنني أمام حضور جاء لا يحمل مسبقات متحاملة بل يحمل حساً حضارياً في التلقي وفي استعذاب الشعر أياً كانت مشاربه أو أوزانه أو إيقاعاته الشعرية، وشرطه الوحيد في الشعر أن يكون شعراً أولاً وأخيراً. ولهذا لم يعُدْ غريباً أن أرى كم تجلت الصديقة الشاعرة بديعة كشغري وهي تلقي قصائدها بنشوة كانت تتجاوب معها قاعة النساء والرجال بالتصفيق والاستحسان. ولم يكن حضور الزميلين الشاعر أحمد الحربي والشاعر عبد الله الزيد بأقل توهجاً وتجاوباً.
ولا أدري كم من تجارب تعدُّد الأشكال الشعرية قد قدمت بنادي جيزان الأدبي سابقاً، ولكن كان من الواضح أن لدى الحضور دربة نادرة في تذوق مغامرة الشعر والشغف باكتشاف مجاهل جديدة. ولولا ذلك المناخ الحرّ لما تجرَّأت على إشراك الحضور في تجربتي الجديدة – نوعاً ما – في كتابة ما أسمِّيه (قصيدة الحواس المبصرة) أو (قصيدة بصر الحواس)؛ حيث يتخلق الشعر من جدل توليد علاقات جديدة بين الصورة والقصيدة. كان ذلك من خلال تقديمي لمجموعة (قصائد الطفولة والحرب فوتغرافيا الرعب)، وحين أبديت بعض الدهشة من إقبال الحضور وتجاوبه الشفيف مع تلك التجربة علمت أن النادي الأدبي بجيزان قد استضاف من قبل بمدة قريبة تجربة مقاربة للشاعر محمد حبيبي باسم (النص المرئي). ألم أقُلْ: إن الحضور يملك دربة وملكة إبداعية تتسم بالجرأة والمغامرة، أو على الأقل هذا هو الانطباع العميق الذي أعطتنيه تجربة الأمسية الشعرية بجيزان الأربعاء الماضي؟!
وداع شعري
ومثلما استقبلتني جيزان بالشعر والأسطورة ودَّعتني جيزان بالشعر والفلّ وبنبوءات مستقبلية؛ فقد كان آخر ما سمعته في فضاء ذلك المساء قصيدة نثر رقيقة كتبتها وألقتها في لقاء ما بعد الأمسية طفلة جميلة لا تتجاوز العاشرة من العمر اسمها رجاء، وكانت القصيدة بعنوان: (هل أنت بشر أو ملاك؟). أما المبدع القادم محمد عقيل فقد أرسل لي بعد أن قرأ ديواني (مرثية الماء) حواراً مع القصيدة، وكأن بطل القصيدة (أخوي محمد) قد قام من نومته الأخيرة وردّ عليَّ قائلاً: ها أنا أصحو وأخرج من مخبئي (دي دي دي)، هيا إني مُصْغٍ أشاركك ذبحة الأشواق.. وكما لم أشكّ لحظة حين كتبت قصيدة (مرثية الماء) قبل عشر سنوات بأن محمداً قد يعود للحياة الدنيا ليردّ على تفجُّعي وندائي سوى في الشعر فإن جيزان قد فاجأتني بمليحة تجرّ ثوبها التاريخي خلفها، أما أمامها فليس إلا مستقبل تسابقه بجرأة وشجاعة تشبه أهلها نساء ورجالاً وأطفالاً. فتحية لأرض جيزان، ولأهل جيزان، ولفلّ وصبر جيزان، ولنادي جيزان الأدبي أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم / د. فوزية عبد الله أبو خالد
Fowziyah_(at)_maktoob.com