بدعوة كريمة من الاستاذ الفاضل : حجاب بن يحيى الحازمي  رئيس النادي الادبي بجازان – وعلى صفحات0(( المعرفة )), تشرفت بزيارة مدينة ضمد , في منطقة جازان .
كانت تلك الدعوة , قد جاءت اثر رغبة ضمنتها مقالا لي  بعنوان ” جازان في الذاكرة ” نشرته مجلة المعرفة في عددها لشهر رمضان  1424هجرية0
كنت في الحقيقة , شاهد عيان على التطور الذي شهدته المملكة العربية السعودية , في منطقتي
( الجوف وتبوك ) , اللتين عملت فيهما معلماً , تلك الفترة التي ابتعدت فيها عن جازان , التي عشت فيها عشر سنوات , قبل أن تبدأ عملية التطوير المتسارعة في كل وجوه الحياة على    ارض المملكة .
ومنذ ان غادرت مطار جازان , في بداية صيف العام ( 1972م – 1392هـ ) الى أن عدت إليه مساء الثلاثاء 5 / 10 / 2006 كان قد مضى على تلك المغادرة اثنان وثلاثون عاماً .. وتزيد بضعة شهور !

كانت المساكن في قرى جازان السهلية من القش , ولم يكن بها شبكات مياه الشرب , وانما كانت تشرب من مياه الابار التي تستخرج بالجهد الانساني الشاق !
لم تكن هناك طرق معبدة لا في داخل البلدات , ولا بين القرى ولا مع المدن الرئيسية . ولم تكن الكهرباء الا في مدينتين فقط .. هما صبيا وجازان , وأغلب منازل هاتين المدينتين أيضا من القش .
ولكن الحقيقة , الملفتة للنظر .. والتي تحمل الأمل في مستقبل واعد . وزاهر .. هي المدرسة !
لقد اتخذت القيادة السعودية , في بداية الستينات الميلادية قراراً استراتيجياً , رفدته بكل اسباب النجاح : نشر التعليم في كل بقعة سكانية في المملكة . والمملكة بلاد واسعة ولم يكن بها حينذاك كما هو الأن , شبكة من الطرق المعبدة تيسر ذلك الانتشار .. وانما كان بها شبكة من المطارات الداخلية , جعلت امر الاتصال , وبسط سلطة الدولة .. وفي الاماكن النائية , امرا ميسورا ..
وهكذا , فقد ولدت المدرسة في كل بقعة تضع عليها رأس القلم في خريطة المملكة .. للبنين والبنات إن في بطن الصحراء اوفي ذرى الجبال وفي المدن والقرى والهجر وحيثما وجد تجمع بشري .. مهما قل عدده ومهما كانت ظروفه 0 وفي منطقة جازان .. تتناثر القرى والبلدات على جوانب الأودية .. وترتفع الكثافة السكانية .. وتتقارب القرى .  وكان الاقبال على التعليم عالياً .

ومن الظواهر الجديرة بالنظر , مدرسة جبل فيفاء , في ذلك الوقت من بداية الستينات .. حيث كان الصعود الى الجبل يستغرق 7 ساعات ,, ولم يمنع ذلك .. من بناء مدرسة هناك كمثال على الارادة والرغبة الهائلة في تحديث المجتمع السعودي .
ولقد أثمرت تلك السياسة , وجعلت من تقدم المملكة أمراً ممكناً بعد ذلك , عندما بد
أ الألوف من السعوديين يتجهون الى التعليم الجامعي , ويكون منهم الطبيب , والمهندس وقائد الطائرة ..المدنية .. والعسكرية .. وغير ذلك من أوجه الحياة الحديثة !
وإني أذكر في بداية السبعينات الميلادية : ونحن نستمع الى اذاعة الطائرة التي نركبها , تعلن اسم قائد الطائرة .. فإذا هو عربي سعودي , فالتهبت أكف المعلمين بالتصفيق الحاد الذي استمر عدة دقائق تحية له ,, لإنه يقود هذه الطائرة الحديثة !!.
في طريقنا من جازان الى ضمد .. ليلاً .. كانت المنطقة وعلى مد البصر .. بساطاً من النور أينما وليت بصرك ولم أعهد ذلك في الزمن الماضي .. وقد انهزم الظلام فالكهرباء تبدد الوحشة وتضفي روح الحياة على المكان , ومن بعيد في ناحية الشرق .. حيث الجبال الشاهقة .. تلألأت أنوار الكهرباء وأسأل مرافقي .. ما تلك الاضواء ؟00 إنها فيفا !! وهل وصلت اليها الكهرباء ؟ ” نعم ” والطريق المعبدة التي توصلك الى قمة الجيل .. وتلك المدرسة , في ساعة واحدة , في رحلة ممتعة وراحه .. رائعة !
وحيثما حلت الكهرباء .. أصبحت الحياة العصرية الحديثة أمراً ممكناً وقائماً :
–        البيت الصحي 00
–        الثلاجة .. والمكيف .. والغسالة 000
–        إنارة الشوارع .. والازقة000
–        التلفاز .. والأدوات الكهربائية .. والحاسوب !
–        وكل ما يعمل بالكهرباء !!
إنها المدينة الحديثة .. بكل أبعادها وتأثيرها على الانسان والبيئة .. والحياة .. وإختفت البيوت القديمة .. تماماً من المنطقة . وانتصبت في كل مكان المباني الحديثة والفلل وبدت هذه المساكن متناثلرة على الارض في كل مكان ..!!
وفي ضمد رأيت مصداق ذلك كله ..!
وكان طائراً من السماء قد أنشب مخالبه في مساكن البلدة واقتلعها من جذورها .. ورمى بها في مياه البحر الأحمر المجاور .. ثم جاءت المعجزة !
ترى هل هذه هي البلدة التي عرفتها .. لا !
أين أزقتها وبيوتها ومعالمها اين بيوت القش السوداء القديمة ؟؟ وأفرك عيني !!
هذا الشارع الجميل ذو الاتجاهين .. ؟؟
والاشجار شديدة الخضرة , التي تنتصب في وسطه وأعمدة الكهرباء التي تنيره – وتلك السيارات الفارهة التي تسير متهادية في الاتجاهين .. وهذه المحلات التجارية والصيدليات والمساجد الجامعة .. وطرقها المسفلتة ! هل هذه ضمد التي عرفتها منذ ثلاثة عقود ..؟؟ لعلي في حلم 000
وأيقظني مرافقي من تأملاتي وهو يفتح لي باب السيارة الحديثة المكيفة .. ويقول تفضل !!
اتخذت مجلسي في بيت مضيفي , وأجلت النظر في سقف الغرفة , فبهرتني زخرفتها الجبسية , ونظرت الى المكيف في الجدار .. وهو ينفث هواءه البارد العليل .. وهذه الكراسي الحديثة المريحة في غرفة الجلوس .. !
هل كل هذا في ضمد .. يا سبحان الله !
رفعت يداي .. وكما قال العبد الصالح ” الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ” , وأيقنت ان، المعجزة قد حدثت وتغير وجه الحياة في كل المنطقة !!
لقد كان وراء ذلك جهد جبار متواصل .. وإرادة حديدية وأموال هائلة .. بذلت , حتى تحول الناس من حال الى حال , وكذلك الأرض .. والقرية .. والمدينة .. والزراعة .. وانتقل كل نشاط الى الحياة الحديثة .. وما كان ذلك أن يحدث في الظروف العادية .. الا في مائة عام أ, يزيد .. “!!
” واعلم أن الله على كل شيء قدير ”
كان الناس الذين أحببتهم , لا يزالون في الذاكرة .. وفي القلب أيضا ,, لم يغادروها .. حتى مع البعد .. ومع الزمن .. كما تركتهم ..:
تلاميذ المرحلة الابتدائية
وتلاميذ المرحلة المتوسطة
والزملاء المعلمون
والباعة في السوق
والجيران والاصدقاء “و أمبراح على أمبير ”
ومعالم البلدة .. وأزقتها والمدرسة التي عملت بها والمسجد الجامع …
وسوق العصر .. والجزار ” عمي محمد مبارك ” يرحمه الله والحياة بنبضها .. وصخبها .. وبساطتها ..وعلى مائدة الغداء , في منزل الاستاذ الفاضل / حجاب بن يحيى الحازمي , كان اللقاء بالناس .. بشريحة من الصغار الذين صاروا كبارا .. , ومن الشباب الذين صاروا شيوخا ومن الأصدقاء .. والأحبة …لم انس وجها من الوجوه التي لقيتها .. وعرفتهم , ولم أنكر أحداً منهم كأني لم أفارقهم وامتحنني بعض الأخوة هناك ولكنني نجحت في الامتحان .. وأفشلت رهانهم على ذاكرتي !! وكانت مائدة ” أحسن الله الى مقدمها ” وأجزل له الاكرام , والفضل والتوفيق .
وخرجت مع أحد الأخوة وأنزلني بجانب المسجد الصغير الذي كنا نصلي فيه , ويقف في وسط الطريق المسفلت ويشير الى قدميه , ويقول : هنا كانت البئر التي كنا نشرب منها !.. طمست .. وعلتها الاسفلت .. وصارت خبراً …! أيجرؤ أحد أن يهدم البئر التي تسقي جزءاً كبيرا من ضمد !؟
ومن مكاني نظرت الى خزان الماء الذي يرتفع عن سطح الأرض شاهقاً , والبئر الارتوازي الذي يغذيه بالماء النظيف ويمد شبكة المياه التي دخلت كل بيت في ضمد كنموذج .. لما حدث في المنطقة كلها !!
وفي اسفل البلدة , مررت بالأزقة التي كنا نسلكها الى المدرسة .. والى السوق .. والى البريد .. والمستوصف الصحي , وانتعشت ذاكرتي . كثير من المعالم القائمة .. وعلاقتها .. بالقديم .. لكن ضمد القديمة .. لم يعد لها وجود الا في ذاكرتي !
اختفى جزء كبير من الوادي الذي كنا نلعب فيه كرة القدم .. واستصلح بعضه للزراعة .. وبعضه للبناء .. وانتشرت المباني الحديثة خارج الجسم القديم للبلدة .. وابعد خطر السيل بالسدود الترابية ..!! سألت عن بعض الأصدقاء .. وعن مهرة اللاعبين الذين رفعوا اسم المدرسة , في ذلك الماضي البعيد , بين مدارس منطقة جازان .. فوجدت لهم أعذاراً .. وقلت لمرافقي , فلنذهب اليهم .. لأسلم عليهم في بيوتهم .. لسابق فضلهم ولظروفهم الخاصة . وكان لقاء حارا مؤثرا .. أن لقيت زملاء العمل .. والطالب النابه .. واللاعب الممتاز .. وقد صار شيخاً .. وأباً .. وودع الصبا . ونضارته !
أدهشني أحد الأخوة الكرام .. وعندما زرته في بيته لتناول القهوة .. بأن أسمعني شريطا بصوتي , تاريخه ( 1967 م : 1387 هـ ) , وهو تعليق على مباراة لكرة القدم بين فريقين من أبناء البلدة , وذاك ما كنت أحسنه في كرة القدم , فقط , ! .. وترحمنا .. على صديقنا .. الكروي المحترف ! وعجبت لإحتفاظه به كل هذه المدة , سليماً , واضح النبرة .. وأعطاني منه نسخة .
في البوم التالي , كان الغداء في منزل مضيفي الأخ الفاضل / علىصديق الصم ..
جاء بعض طلابي الذين هم الأن مدراء مدارس وكانت تربطني بهم روابط وثيقه .. لقد كانوا من فريق كرة القدم وكانوا من النابهين .., ولم أتمالك نفسي , وأنا أرى حفاوتهم البالغة , أكرمهم الله , فأنخرطت في البكاء .. فرحاً بهذا اللقاء الذي شاء الله , أن يتم بعد فراق طويل , زاد عن ثلاثة عقود !! لقد جاء اللقاء .. في مثل هذا الحال .. من الأمن والرخاء والتطور .. وبحبوحة العيش .. ووصول ضمد الى هذه الحال من وجود كل مؤسسات الدولة بها .. والمدارس المتوسطة والثانويةوتحفيظ القرأن الكريم .. وتلك الكوكبة من أبنائها الكرام البررة الذين يحملون الدرجات العلمية العالية . ويساهمون في تنمية وطنهم بكل كفاءة واقتدار .. .
ونظرت فوجددت من أولئك الصغار الذين تعلموا في ظروف قاسية .. من المسكن والمعيشة والمدرسة , قد ذهبوا الى الولايات المتحدة وبريطانيا وحصلوا على درجة الدكتوراه وتفوقوا !
ومنهم من    نهل من جامعات الوطن المزدهرة ..ونال منها الدرجات العلمية العليا .. وهو من أعلام الأدب والثقافة .
وأدركت عمق التغير في وجه الحياة .. في هذه المنطقة ( جازان ) و( ضمد ) البلدة التي عرفتها .. وتعرفت عليها الأن .. بعد أن جاءها التطور .. وأصبحت قطعة من العصر الحديث .. في كل مظاهر حياتها ..
نعم لقد حدثت المعجزة .. وكل ذلك بفضل الله القوي العزيز .
وشكري وتقديري للحفاوة البالغة التي أحاطوني بها ,
الى الأخوة الأفاضل :الشيخ حجاب  بن  يحيى الحازمي
وسعادة عميد كلية المعلمين في جازان د. حسن بن حجاب الحازمي
والأخ المهندس : حسن محمد صديق .. و محمد اسماعيل عاكش ..
وإلى كل الأخوة  الكرام الذين سعدت بلقائهم واستضافوني واكرموني في بيوتهم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصطفى محمد ياسين
5 / 9 / 1425
19 / 10 / 2004 م